تخفيف الأحمال في الثانوية العامة : لماذا الان ؟ د كمال الجندى
تخفيف الاحمال – السؤال الكبير الذي يواجهنا بخصوص المشروع الهدام وغير المدروس المطروح اليوم تحت مسمي اعادة هيكلة الثانوية العامة هو : هل يحل هذا المشروع الخائب ايا من المشكلات التي يعاني منها التعليم الثانوي في سياقه الراهن ؟؟
في محاولة للبحث عن اجابة لهذا السؤال اطرح مجموعة من الملاحظات علي النحو التالي :
اولا : اهداف مرحلة التعليم الثانوي ليست اعداد الطلاب لسوق العمل ، كما ان المواد الدراسية الحالية او المقترحة لا تؤهل الطلاب للالتحاق بسوق العمل .. الهدف الرئيس للتعليم الثانوي والذي تم اعتماده علي مدي التطورات التي لحقت به طوال القرنين الماضيين، هو اعداد الطلاب للالتحاق بالتعليم الجامعي ، وتاهيلهم للحياة في المجتمع بكل ما يتطلبه من الوعي الكامل بمسؤوليات المواطنة والايمان
بالانتماء والولاء للمجتمع والافتخار بتاريخه وعلاقاته الدولية..وتبني الفلسفة المجتمعية التي تسوده..
واذن فالتحجج باستهداف تحقيق الملاءمة بين المواد هيةالدراسية مع متطلبات سوق العمل حجة واهية لا مكان لها في هذا المقام.. ان النتقال الي استهداف المدرسة الثانوية للاعداد للالتحاق لسوق العمل جنبا الي جنب مع اعداده للالتحاق بالجامعة يلزمه اعادة هيكلة حقيقية – ليست وهمية زائفة – للمدرسة الثانوية وتحويلها الي ما يعرف بالمدرسة الثانزية الشاملة..وقد كتبنا عنها مرارا وتكرارا منذ سنوات طويلة..
ثانيا : مشكلة التعليم الثانوي ليست في كثرة اعداد المواد الدراسية ، فهذا العدد من المواد كان موجودا وسائدا منذ سنوات طويلة ، ولم يكن هناك اي شكوي من كثرة المواد الدراسية ، بل انك لو قارنت بين محتويات المناهج الحالية ومثيلتها في الاربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي نجد اننا قمنا خلال تلك العقود الطويلة بتخفيف الاحمال من المعارف والقيم والمهارات بصورة واضحة مما اخل كثيرا
بمستويات الخريجين..المشكلة الحقيقية التي تواجه الطلاب والمعلمين واولياء الامور فيما يتعلق باثانوية العامة يتمثل في الفجوة الواسعة بين اعداد الخريجين من المدارس الثانوية والفرص المتاحة امام اعداد كبيرة منهم للالتحاق
بالكليات والأقسام التي يرغبون فيها . تلك هي المشكلة والتي يضطر المسؤولين معها الي زيادة اعداد الملتحقين بالاقسام والكليات التي يعتقدون بعدم ارتباطها بسوق العمل لكن تكلفتها المادية اقل وفائدتها السياسية اكبر..
ثالثا : البرنامج الدراسي المقرر حاليا في مرحلة التعليم الثانوي وما يحتويه من مواد دراسية ومعارف وموضوعات
يمثل محصلة لجهود تاريخية طويلة وضنية. ،وتجارب علمية
عديدة شاركت فيها ادارات ووحدات من وزارة التربية و التعليم، من بينها مركز تطوير المناهج ووحدة المناهج بالمركز القومي للتربية ،واساتذة كليات التربية، وتم ادارتخا بمشا ركة مجموعة كبيرة من وزراء التعليم الذين تولوا هذه المسؤولية علي مدار العقود الطويلة الماضية منذ ثلاثينيات الفرن الماضي ناهيك عن مشاركات الخبرة الاجنبية من جهات دولية عديدة..واستهدفت جهود الخبراء والتربويين من مجموعات المواد المقررة علي مرحلة التعليم الثانوي اعداد المواطن المستنير الذي يملك الوعي التاريخي والجغرافي بالتطورات التاريخية لمجتمعه وللاطماع الدولية بشانه وايضا امتلاكه الوعي بالتطورات في المجتمعات العربية والدولية ، والمامه بالرؤي والفلسفات التي سادت العالم القديم والحديث ، وأهمية تكوين رؤية شخصية ووطنية حول مستقبله الشخصي والوطني ، كما تستهدف ايضا امتلاك الطلاب للوعي بحقوق المواطنة وواجباتها..
وغير ذلك من اهداف مهمة ترتبط بالامن الوطني والقومي
والعالمي ..
معني ذلك ان مجموعةالموادالدراسية المقررة حاليا علي
السنوات الثلاث بالمدارس الثانوية لم يتم الانتهاء الي صلاحيتها واعتمادها بطريقة عشوائية او من خلال الاعتماد
علي امزجة القيادات السياسية او التنفيذية او التربوية والاعلامية ، انما اعتمدت استنادا الي نظريات وتجارب علمية ومرجعيات تربوية ،وبالتاليلا يصح ابدا الانقلاب المفاجيء عليها بغير دراسات وتجارب علمية تبين بجلاء عدم صلاحية جوانب من هذه المقررات ، وضرورة ازاحتها
واضافة مواد اخري بديلة..
رابعا : التعليم ليس ساحة للتجارب العشوائية التي لا تعتمد علي اي رؤية علمية او تربوية ،انما تنطلق من فكرة تخفيف الأحمال التي لطالما جربناها من قبل تكرارا ومرارا وثبت فشلها ، فلقد جربناها في محاولة تخفيف احمال مرحلةالعليم الابتدائي وتم اختصارها الي خمس سنوات ثم اعيدت السنة السادسة رعد ثبوت فشل المحاولة . ومع ذلك يتم تجريبها اليوم في كليات التربية حيث اختصرت،سنوات الدراسة الي
ثلاث سنوات ، وخصصت السنة الرابعة للتربية العملية بالمدارس من اجل سد بعض النقص في اعداد المعلمين..
ومعني ذلك حذف جوالي 25% من المعلومات والافكار
والمهارات التربوية التي يتعين ان يحصل عليها معلموا المستقبل ..ومن المؤكد ان ذلك التخفيف للاحمال،سوف يتسبب بالضرورة في انحدار المستويات المهنية للمعلمين
من خريجي النظام الجديد في كليات التربية..
أنكم فعلا تخربون التعليم وتنحدرون بمستويات الاجيال
الجديدة من شباب المواطنين الامر الذي يضع المجتمع
باكمله في مهب
خامسا : هل فكرنا في مستويات خريجي التعليم الثانوي بعد حذف حوالي 30% من المفررات والموضوعات والمعارف والمهارات التي كان اقرانهم يدرسونها في السنوات السابقة ؟؟ هنا يجب ملاحظة ان كثيرا من اساتذة الجامعات
يشكون حاليا من تدني المستويات العلمية للطلاب الجدد القادمين من المدارس الثانوية..فما بالك بعد حذف مجموعة المواد المقترحة والمهمة جدا في اعداد المواطن المستنير
الذي يعرف تاريخ بلاده ويدرك حقوقه ومسؤولياته ويؤمن باهمية ان يكون له رؤية فلسفية حول مستقبله الشخصي ومستقبل الوطن ويعيش من اجلها..
سادسا : في اعتقادي ان الحذف العشوائي الهدام غير المدروس ، المقترح حاليا ،يشبه تماما ما جري من تخفيف
الاحمال حين وجدت الدولة انها عاجزة عن تلبية متطلبات
توفير الكهرباء للمواطنين طوال الوقت ، فاضطرت الي تخفيف الاحمال خلال بضع ساعات لتوفير التمويل اللازم لموازنة الكهرباء..نفس الامر يحدث اليوم في حالة عجز الدولة عن توفير اعداد الفصول والمدارس والمعلمين اللازمين لتوفير التعليم منخفض الجودة الحالي لطلاب التعليم الثانوي ..فنلجا الدولة الي تخفيض احمال المنهج الدراسي بحذف بعض المواد الدراسية . .الامر الذي يؤدي
الي اختزال حصص الدراسة وتوفير اعداد كبيرة من المعلمين ..وبالتالي مواجهة العجز في التمويل الذي يجب ان
تتكفل الدولة به في مجال التعليم ..تخفيف الاحمال هنا
مرجعيته سياسية/اقتصادية ولا تمت للتعليم باي صلة
في النهاية يتعين علينا ان نوجه نظر الحكومة الي،
هذه الملاحظات وغيرهامما يضيق المقام هنا عن ذكرها بالكامل . ونؤكد لها ان منطلقنا في معارضة هذا المشروع
يتاسس علي خبرتنا في التدريس والبحث،في مجال العلوم التربوية ، وتطوير المناهج وتاليف الكتب المدرسية محليا وعربيا ، ننطلق غي معارضتنا للمشروع التخريبي الحالي
من واقع خبرتنا هذه ومن ايماننا العميق بحق الاجيال الصاعدة في تعليم مناسب وحق الوطن في مواطنين متعلمين تعليما يؤهلهم لممارسة مواطنتهم بصورة تعمل فعلا علي مشاركتهم في بناء وطن قوي وحر وقادر علي مواجهة المشكلات وتجاوزها ..ننطلق في رفض المشروع التخريبي الحالي من وعينا الكامل والعميق بسلبياته وفوضويته
وناثيره المدمر لمستقبل مجتمعنا ومن هنا نوجه انظار الجميع الي اهمية التمهل والتاني ومراجعة الخبراء ورجال العلم والعدول ولو مؤقتا عن هذا المشروع واجراء مزيد من البحث حول تبعاته ،اذ ان الاستمرار في هذا المشروع يضع ليس التعليم فقط بل المجتمع باكمله ومستقبله في خطر حقيقي..